مسكت القلم أكتبُ إليكِ كل ما قالهُ الشعراء في كلام الحب ولكن ما أن مسكت القلم حتى رسم وجهكِ على الصفحة البيضاء , وما كنت أدري إن لي القدرة على الرسم أو ربما طبعت اشتياقي إليكِ فكان الشوق وجهكِ والحب هو المداد فتركت أناملي تخط العيون والأنف والجفون والوجه إلى أن كنتِ أنتِ , و ذلك الخال الذي طالما نظرت إليه ملياً وهتكت الأعراف بلثمه حتى الجنون .
في آخر يوم لي معكِ قبل أن ارحل قلتي (سوف انتظركَ عندما تعود, وإن طال الزمان أنا متيمةٌ بكَ ,أنت الوحيد في هذه الدنيا تستطيع إمتلاكي) وادعكِ تسهبين بالكلام بين يدي لساعات طوال , وأنا لا اعرف مدى شعوري نحوكِ وكيف أتقبلكِ
في حياتي ,مثل مريضة عند طبيب أو سكرتيرة عند مدير , صديقة , زميلة , ابنه أو زوجة المستقبل وكان هذا الخيار جعلني أفكر بهتكِ الأعراف وخيانة مهنتي.
كان ذلك في بداية الشتاء حيث أنه اليوم الأخير قبل أن تنتهي سنتي التطبيقية الأولى كباحث اجتماعي في مدرسة ثانوية , وكانت هي أول حالة أبحث في تفاصيلها , بعد أن أقعدتها حالتها النفسية على الكرسي المتحرك قبل شهر وبضعة أيام قبل مجيئي , ولكوني أول شاب يعمل كباحث اجتماعي في مدرسة بنات ,انهالت علي َ الطالبات بحكايات لا تحتاج معالجة ولم أسدي لهن غير النصيحة , كلما دخلت غرفتي أنظر من خلال النافذة المطلة على غرفة المدرسات أشاهد تلك الفتاة على كرسيها المتحرك تنظر إلى غرفتي وبجانبها إحدى المدرسات تشير نحوي وكأنها تقول لها أذهبي إليه .
دام هذا الوضع قرابة ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع كالعادة جلستُ في غرفتي أطالع كتيب يحكي عن أسلوب الحديث , طُرق الباب طرقات خجولة
قلت (أدخل) فلم يدخل احد , رفعت صوتي فلم اسمع جواب , قمتُ إلى الباب وفتحته , وجدتُ البنت المقعدة والمدرسة التي كانت تشير إليَ يوم أمس عند الباب ورأيت للوهلة الأولى كم كانت الصغيرة مترددة والمدرسة يغرقها الخجل .
(علاء) تفضلا بالدخول
دخلتا وجلست المدرسة على الكرسي بعد أن وضعت الفتاة المقعدة أمامها
(علاء) أهلا بك يا ست ...حياكِ الله
(المدرسة) حياك الله ...وأهلا وسهلاً
التفت إلى الفتاة وقلت(كيف حالكِ يا صغيرة )
(الفتاة) بغضب ...لستُ صغيرة ...وأدارت نحو المُدرسة بوجهها ....ألم أقول لكِ لا تأتي بي إلى هنا .
(علاء) أني آسف جداً أعذريني , أنا أقصد أني أكبر سناً , وأنتِ أصغر بالنسبة إلي , أنا جد وأنتِ شابة صغيرة هذا كل ما في الأمر , وهذا سر بيننا لا تفضحيني ,همست إليها (أنتِ أجمل مني ومنها , هل تعلمين ذلك)
نظرت إلى المدرسة والغضب في عينيها ولكن اقل وطئه , ثم عادت بالنظر إلي ,غمزتُ وابتسمتُ لها.......وهي ابتسمتْ بدورها.
انطلقت في ميدان ابتسامتها حتى باتت تتكلم معي بحرية تامة , والتمست فيها امرأة وتحدثت أيضا مع المدرسة وهي أختها الكبرى واستعلمت الأسباب التي أدت إلى شللها النفسي , ثم بدأت أطوي الفارق الزمني والوقتي بيني وبينها وأصبحت معها في العمر ذاته و إلى أن أسبرت عن كشف غور نفسها ,ثم عدتُ ثانية إلى الباحث الذي يريد حل الأزمة النفيسة , مستخدماً الكم من المعلومات والتمكن من المهنة في علاج هذهِ المخلوقة ذات الخال على وجنتيها مثل نقطة حبرٍ على ورقة بيضاء.
خلال الأيام الأولى بدأ واضحاً إن الفتاة تميل إلى التحسن ,فعملت على طوي صفحة الماضي المريع والكدر الذي سببه لها, نتحدث ساعات طوال متدرجين من المدرسة إلى الحدائق والمتنزهات ثم إلى منزلهم كان عمر الفتاة (أربعة عشر عام)وأنا في الرابعة والعشرين , الفارق بيننا عشرة سنين و بالطبع إن هذا الفارق جعلني أتصرف كالأب , أغدقت الحنان والعطف وشملتها بقبلات على الرأس , وقلت أمثل والدها المفقود ولغرض شفائها .
دعيت على الغداء في منزلهم بمناسبة عيد ميلادها , فتكلمت أنا وأختها كثيراً حول شفائها وعودتها إلى السير ثانيتاً بعد أن تركتنا و ذهبت إلى غرفتها
قالت( أختها) كيف عودتها إلى ما كانت عليه
(علاء) عندما نذيب الحزن ونحطم الذنب الذي خلفه لها الحادث, والعمل على تقبل الواقع في مواجهة الخوف
فقطع صوتها الحديث بيننا عندما نادتني ودعتني إلى غرفتها ,دخلت إلى غرفتها
قالت( أغلق الباب)
امتثلت لأمرها وأغلقت الباب
قالت( أغمض عينيك)
(أغمضتها)
قالت( افتح عينيك)
عندما فتحت عيني وجدتها واقفة على قدميها , غمرتني السعادة , وطارت بي الدنيا كبساط الريح في نشوة عارمة , وإحساس النجاح لا يماثله إحساس , فأخذتني الفرحة لضمها بين ذراعي وتقبيلها لا شعورياً .
بعدها جلسنا بقرب بعض , اصف لها شعوري و الغبطة التي اعترتني حتى أحسست بأصابعها تشبك أصابعي , و وضعت رأسها على صدري وقالت( أحبكَ .....منذ أن عرفتكَ وأنا أصبحت امرأة , ولي الحق بأن أحب الفارس الذي أخذ بيدي إلى بر الأمان).
ثم طوقت عنقي بكلتي ذراعيها , لم تكن ردة فعلي سوى جمود كالأبله , بنت في الرابعة عشرة قد هزت عروشي واختل توازني , فتحطم دور الأب وتشلل الباحث الاجتماعي وبقى كتلة المشاعر تهتز كما السنابل في نسيم الليل.
في بادئ الأمر أقنعت نفسي بأن الأمور المستجدة مجرد أمتنان من قبل الفتاة المراهقة , والمسير مرة أخرى سوف يجعلها تبتعد عن مشاعرها تجاهي , غير أني لم أكن أحيط علماً بأن الفتيات يتقدمن نفسياً وعاطفياً والنضوج السريع نحو الأنوثة
وهذهِ الأنثى أصبحت في عيني كيان جسدي مثير و التغييرات ظهرت جلياً في مفاتنها كامرأة ناضجة , أو ربما كانت موجودة ولكن الفكر الأبوي جعل مني أن لا أرى تلك التغيرات .
واليوم أصبحت عاشقاً حقيقياً ولكن لمن؟ لفتاة تصغرني بعشرة سنين , أيعقل هذا أيها الباحث الاجتماعي؟؟
توالت الأحداث وتطورت الأمور و اخترقت العادات ودارت الكرة الأرضية بالأيام والساعات إلى يوم الفراق , اليوم الذي أنقضت مدة التطبيق في المدرسة وقدوم موعد الالتحاق بالخدمة العسكرية , وطبعاً كانت تعلم بذلك , بيد أن الطمأنينة تحتل قلبها ويواسيها الوعد الذي قطعته على نفسها بأنها سوف تنتظرني حتى عودتي والزواج بها .
وفي الليلة الأخيرة تقابلنا على ضوء القمر , وبكت كثيراً مرتمية على صدري فأخذنا النسيم العليل وطبعنا على الشفاه قبلاً حرى .
واليوم بعد مرور عشرة سنوات وأنا في زنزانة السجن مسكت القلم حتى أكتب إليكِ من جديد رسالة أخرى أضعها في دفتري هذا سويتاً مع الأخريات فوجدت القلم يرسم وجهكِ على صفحة بيضاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق